Changing The World Is Not Just A Dream

Posts tagged ‘جامعة’

واقع التعليم في الأردن

تثير قضية التعليم في الأردن صخباً شديداً حينما نبحث عن أسباب تدني المخزون العلمي والمعرفي والثقافي لمخرجات الجامعات, فتارة ترى أسلافنا يهاجمون أجيالنا “هدول مش نافعين ودايرين على الهمالة والحكي الفاضي, بدل ما يروحو يحررو القدس”, ونرى جيل التغيير “والكلمة على راس لسانو” يهاجم الجامعة كمؤسسة تعليمية, وأن دورها تراجع ولم يعد بإمكانها التماشي مع تطورات العصر وأنها لا تقدر مواهب وقدرات طلابها, لأن “هدول بدهم يرجعونا على عصر التخلف وأيام أبو جهل”.

حقيقة, أن كلاً من الطرفين يعبث بأعراض بسيطة لما يتفشى في جامعاتنا, ويغفلون جوهر المصاب العظيم الذي ألم بقطاع التعليم في الأردن, الذي هو أحد الأسباب التي تشكل عقبة في طريق الاصلاح, بدلاً من التطرق لمعالجة هذه المشكلة واستئصالها, للنهوض بنظام تعليمي متماسك تتوزع مخرجاته على طيف متنوع يشمل القادة والعلماء والمفكرين والأدباء, بحيث يكون التغيير لبناء وتطوير البنية التحتية للأردن الحديث على أيديهم, ويعزز مفهوم المواطنة بأجيال تدرك ما لها من حقوق وما عليها من واجبات, وتدرك بأن حبهم لوطنهم وانتمائهم يفرض عليهم وضع قدراتهم وعقولهم في بوتقة يكون نتاجها النهوض بأركان الوطن جميعها والاعتناء بأمنه ورفعته, ذلك أن هذا العطاء يصل لأردن قوي في ذاته وبأبناءه, عصي على أعدائه وعلى المخططات والمصالح الاستعمارية, ويحقق الاعتماد على الانتاج الوطني وتحقيق اكتفاء ذاتي يخرجنا من دوامة التبعية والاعتماد على رأسمالية الاستعمار الذي لا تزال تبعاته ظاهرة وبشكل يتفاقم يوماً بعد يوم إن نحن لم نتصد لها عن طريق إصلاح المؤسسات التعليمية لإخراج جيل يعي ما يواجهه من تحديات. النور موجود في نهاية النفق, ولكن هل نملك من الشجاعة ما يكفي لكي نوغل في ظلمة هذا النفق لكي نتخطى مرضاً يتفشى؟ ألا تكفي مشاهداتنا من شباب مفرغ فارغ حتى نستدرك ما فاتنا على طريق الإصلاح؟

لست إلا طالباً يرزح بين مطرقة فقر الكادر الأكاديمي من المحتوى العلمي والإبداعي والفكري وبين سندان شريحة واسعة من الطلبة لا يتحلون بالنضج الكافي لكي يدركوا الهدف الرئيس من التحاقهم بالجامعات ويدركوا قيمة العلم.

لست إلا طالباً تتقاذفه موجة مدرس بدرجة الدكتوراه لا يفقه شيئاً سوى المكتوب على ورقة يحملها منذ سنوات حتى سئم حبرها منها, وموجة طالب “مغوار” يهب واقفاً ليقول:”دكتور, خلصت المحاضرة”, ثم يلتفت يمنة ويسرة عله يحظى بابتسامة من المعجبين و”المعجبات” لاستعادته حق الطلبة المهضوم من قبل المدرس الذي “اخد راحته”.

لست إلا طالباً يسبح عكس تيار بعض من المدرسين حازوا درجة الدكتوراه في “الإحباط” وثلة تسمى زوراً وبهتاناً “طلاب” تسيطر عليها نزعة من الطفولة المتأخرة, ومجردة من الثقافة والوطنية ولا يعي من أمر أمته سوى “وشرفي إنها شقفة” و “ياي شعراتو شو حلوين”, فمن المسؤول هنا؟ ثمة إجابة واحدة وواضحة: نحن.

إن من يمعن النظر في خريجي الجامعات يرى الفجوة العظيمة بين المتوقع من “خريجي جامعات” وبين الواقع الذي نراه بأم أعيننا! سنجد أن فئة ليست بالقليلة قد فقدت قدرتها على التفكير والإبداع, والاعتماد على الغير وعدم الثقة بالنفس عند تعرضهم للضغوط, كما انعدمت قدرتهم على النقاش البناء والهادف والمبني على الحقائق والأسس السليمة, المعتمد على نموذج فكري لا يستند إلى التعصل والعنف, وإنما قائم على احترام الرأي الآخر والدفاع عن الفكرة بطريقة حضارية تجعل الجامعة ميدان مبارزة فكرية يخرج جيلاً ذا مخزون فكري وثقافي غني, كل ذلك بات بمثابة “شيء” مهدد بالانقراض نتيجة اعتماد نظام التلقين, والإفتقار للممارسة التطبيقية, وسياسة تثبيط العزائم التي يتبعها بعض من المدرسين, وغياب الإشراف ومتابعة العملية التعليمية عن قرب, وانقطاع التواصل بي الطلاب ومدرسي المواد, كما أدى الاستغناء عن البحث العلمي إلى اضمحلال اسس التفكير المنطقي لدى الطلبة وعدم القدرة على التفكير بحل علمي للمشاكل التي تواجههم, وإنما اعتمادهم اسلوب “التجربة والخطأ” في كل شيء, على الرغم من أن هذه الأخطاء قد تكون قاتلة بعض الأحيان.

تكمن المشكلة هنا في أكثر من مستوى واحد:

فإجراءات القبول في الجامعات أصبحت بالية ولا تضمن جودة مدخلات التعليم, ولا تقيم الطالب الذي يريد استكمال دراسته في الجامعة بناءاً على قدراته العقلية والفكرية والأخلاقية, وإنما تركز على معيار واحد هو امتحان الثانوية العامة.
إن تردي النوعيات التي يفترض أن يكون هدفها طلب العلم, سبب في كثير من الظواهر الدخيلة على مجتمعاتنا, نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: العنف الجامعي الذي بات أكثر شراسة من ذي قبل, ومرضاً يتفاقم يوماً بعد يوم. والأزمة الأخلاقية التي يعاني منها جل طلاب الجامعات من حيث عدم احترام الأنظمة والتعليمات, وتلاشي احترام الطلبة لبعضهم من جهة, واحترامهم للكادر الإداري والأكاديمي من جهة أخرى, واندثار الأخلاقيات العامة في التعامل وفي الحياة التي يفترض أن تصدر عن طالب جامعي مثقف وواع, بحجة الحرية الشخصية, ودون أي اعتبار للحياء العام. والأزمة الفكرية التي فرغت الطالب من محتواه العلمي والثقافي بحيث فقد القدرة على المناقشة والإقناع, بحيث أصبح من السهل أن ينقاد إلى الكثير من المنعطفات الوعرة بسبب عدم وعيه التام بما يفعل وتبعيته لأي رأي فقط لمجرد عدم قدرته على الرد.
كل هذا أحال المجتمع الجامعي إلى منصة لعرض الأزياء ويخرج شباباً “كول وفايعين” لديهم شلل فكري واجتماعي وأخلاقي ووطني, أقصى عطاءهم لوطنهم يتمثل بالمشاركة في “Arab’s Got Talent” حتى”نرفع راس البلد فينا”

أحد الجذور المهمة للمشكلة أيضاً: هروب الخبرات الأكاديمية من الجامعات الرسمية إلى الجامعات الخاصة وإلى الجامعات في الخارج, فلا يكاد أحد المدرسين يحصل على درجة البروفيسور, حتى تراه “ضبضب أغراضه وحجز تذكرة لبلاد برا”. ألسنا نحن من جعلنا مصلحة الجيب أهم من مصلحة الوطن؟
مشكلة أخرى, هي تدني المستوى المعرفي لدى فئة ليست بالقليلة من المدرسين, وافتقارهم للإبداع والتحفيز في أسلوب تدريسهم, واتباعهم لأساليب موغلة في القدم تعود لعصر”الفلينستونز”, وأساليب أخرى مغلوطة منها أسلوب “السلايد شو”, فترى المدرس لا يملك سوى قراءة ما يتم عرضه على جهاز العرض ليس أكثر, ولك أن تسأل طالباً خارج من محاضرة كهذه عن شعوره في هذه اللحظة, كما أن الجو الرتيب الخالي من المرونة والتميز الذي يطغى على المحاضرة يقضي على ما تبقى في الطالب من طاقة بعد قضاءه نهاراً ممتعاً بصحبة الشباب والصبايا في الوقت الذي “طنشلو فيهم محاضرتين تلاتة”, بحيث أصبح معدل الاستيعاب لديه يؤول إلى الصفر. هواية أخرى يمارسها المدرسون: الورقة التي عفا عليها الزمن, التي عبث فيها القلم من شطب وتعديل بلا تحديث في محتواها العلمي, بحيث بات المدرس آلة ناسخة بالكاد ينطق بغير ما بهذه الورقة التي في الغالب تكون إعادة صياغة لنص الكتاب ولربما النص نفسه, وليس خلاصة خبرة المدرس وعلمه, وقد يتوقف عند أي سؤال مباغت من طالب لا يزال متشبثاً بذلك الجدار الذي آل إلى السقوط, ويصر على التعلم, مما قد يتطلب مهلة تسوية للرجوع إلى المراجع المناسبة, ويتعلل المدرس بالجملة الشهيرة “المبني على خطأ خطأ” حتى ” ما يفتي من عندو ويظلم الطلاب”.

ظاهرة أخرى تجدر الإشارة لها: التضييق المستمر على الطلبة والحد من حرياتهم فيما يتعلق بالعمل الطلابي في كافة أشكاله, سواء أكانت ثقافية أم علمية أم فنية أم فكرية أم سياسية, بل ويطالبون الطالب بإبقاء نفسه بين دفتي كتابه العتيق الذي ما عاد يفهم منه شيئاً, متذرعين بأن الهدف الأساسي للطالب هو “طلب العلم”, متناسين ما يعنيه مصطلح “العلم”, كما أن تهميش البحث العلمي والمعارض العلمية والتقنية قتل حب البحث والإكتشاف لدى الطالب, وأطفأ شموعاً ليس من السهل إنارتها, بالإضافة إلى أن على الجامعة أن تحفز طلبتها على الإبداع بتوفير المصادر المناسبة لذلك, لا أن يثق الطالب بأن كل شيء سيأتيه جاهزاً. ألا يعد هذا تفنناًَ في قتل الإبداع والرغبة في العطاء لجيل يفترض أن يكون في الفترة الذهبية لعطاءه؟

هذه القضية ليست وليدة هذه اللحظة, وإهمالها بجانب العديد من القضايا الأخرى التي تستوجب النظر فيها ومعالجتها سيجعل الأمور تسوء أكثر فأكثر, وكل هذا يحدث بالتزامن مع النوايا المبيتة التي يماط اللثام عنها من حين لآخر بالإتجاه لخصخصة الجامعات, مما يضعنا أمام مواجهة مباشرة مع حصرية التعليم, وجملة “التعليم للأغنياء فقط” التي ستصبح واقعاً بشعاً إن لم نتصد لها. مجرمون نحن بحق أنفسنا, والأجيال التي تلينا, والأهم من هذا, بحق وطننا, إن نحن لم نحرك ساكناً ولم نبدأ بإصلاح شامل لقطاع التعليم. أؤمن بأن التغيير والإصلاح يبدآن من أروقة الجامعات, فهي تؤسس بيئة خصبة لتبادل الثقافات والأفكار لفئة هي عماد هذا الوطن, فإن نحن أهملنا هذه الفئة, فالقادم أسوء. لماذا ننتظر ما لا نستطيع تحمل عواقبه إن كنا نستطيع حمل مشعل التغيير منذ الآن؟ لماذا لا نعزز انتماء أبناءنا بأرضهم ورايتهم بعيداً عن الانتماءات المناطقية والإقليمية عن طريق بلورة مفهوم الانتماء على أرض الواقع بدءاً من الحرم الجامعي وتعزيز مفهوم الديمقراطية لمجتمع مصغر سيخرج بعد أيام قلائل ليسيطر على الساحة ويشكل الوزن الأعظم من المجتمع؟ هذه الأسئلة تعطي مؤشراً للمسؤولين كي يعيدوا خلط أوراقهم فيما نقبل على مرحلة مظلمة نحن فيها أحوج ما نكون إلى شباب يتوق للحرية ويدرك المسؤولية في آن واحد, شباب لا هم له سوى بناء الأردن والارتقاء به إلى حدود السماء, شباب يصحو كل يوم على جملة: الأردن قوي بشبابه

عبدالرحمن الصيفي
طالب جامعي لم ييأس بعد